الاثنين، ١٣ ذو القعدة ١٤٢٧ هـ

مقالة اليوم/عن القدس العربي


مَن يتذكّر الـ برافدا ؟ صبحي حديدي
04/12/2006
الأسلوب الرهيب الذي تم استخدامه في اغتيال الجاسوس الروسي السابق ألكسندر ليتفنينكو يعيد إلي الأذهان مناخات الحرب الباردة، باديء ذي بدء، ثمّ المناخات ذاتها وقد امتزجت بطرائق عمل المافيا إجمالاً، وربما المافيا الروسية المعاصرة بصفة خاصة. وأعترف أن هذه الجريمة، وبعد أن ردّتني مثل الكثيرين سواي إلي أجواء عقود الحرب الباردة تلك، قادتني تلقائياً إلي زيارة واحد من أشهر وأعرق المعاقل الإعلامية والدعاوية في تلك الحرب، وأعني صحيفة الـ برافدا ، أو ما تبقي منها الآن في الواقع، إذا كان قد تبقي فيها شيء من أعراف ماضيها الزاخر الحافل!ذلك لأنّ زائر موقع الصحيفة علي الإنترنت، في الطبعة الإنكليزية، سوف يجد التالي علي الصفحة الأولي: في الخبر الرئيسي تقرير يرجح يداً واحدة تقف خلف مقتل رئيس الوزراء الروسي الأسبق إيغور غايدار والصحافية أنّا بوليتكوفسكايا والعميل الروسي السابق ليتفينينكو. علي اليسار، وفي زاوية الموضوعات الأكثر قراءة، نجد حكاية عن الشريط الذي يظهر بريتني سبيرز في مشاهد جنسية، وبيعه إلي صناعة أفلام البورنو بمبلغ 100 مليون دولار؛ وخبراً ثانياً عن خمسة أصناف من الطعام، هي الأكثر ضرراً، وثالثاً عن المفهوم الجديد لشركة تويوتا ، وهل يميل أكثر إلي السيارة أم إلي الدراجة النارية؛ ورابعاً عن الحقائق العشر الأكثر طرافة، في ما يخصّ الثياب الداخلية...!هل هذه هي الـ برافدا ، دون سواها؟ كلا، بالطبع، ومن العبث أن يبحث المرء فيها عن رسوبات باقية من أيام زمان، ليس لأن الدنيا صارت غير الدنيا في روسيا وحيثما توزّع هذه الـ برافدا الجديدة فحسب، بل لأن المعارك المالية والقانونية الشرسة التي توجّب أن تُخاض من أجل بقاء الجريدة واستمرار الاسم ذاته اقتضـــت هذا الخطّ التحريري، وهذا الخطّ وحده بلا منازع. ومن الإنصاف القول إنّ قلّة قليلة فقط من أهل الحنين إلي الماضي والمتباكين علي الأطلال هم وحدهم الذين يعيبون علي هذه الـ برافدا انها لم تعد تمثّل تلك الـ برافدا .المرء، من جانب آخر، لا ينصف هؤلاء أنفسهم إذا لم يتفهم الأسباب العميقة، الوجدانية والتاريخية والعقائدية، التي تدفعهم إلي مقدار هائل من مشاعر النوستالجيا كلما قلّبوا صفحات الجريدة الراهنة، فلم يجدوا فيها ما هو أشدّ جاذبية للقرّاء من طرائف الثياب الداخلية! ذلك لأنّ الـ برافدا التاريخية لم تكن محض صحيفة سياسية، بل كانت أشبه بسجلّ وأرشيف وخزّان ذاكرة، سيما عند أولئك الذين ما تزال حميّة الماضي تغلي في عروقهم. لقد أسسها ليون تروتسكي في فيينا كصحيفة اشتراكية ـ ديمقراطية موجهة إلي عمّال روسيا، وصدر عددها الأوّل في أواخر 1908؛ ثمّ تحوّلت إلي ناطقة باسم اللجنة المركزية لـ حزب العمال الإشتراكي الديمقراطي الروسي بعد سنتين، بتأثير من تيّار فلاديمير إيليتش لينين الصاعد؛ وتوقفت عن الصدور في عام 1912، لأسباب تخصّ انقسام الحزب إلي بلاشفة ومناشفة؛ واستأنف البلاشفة إصدارها في مدينة سانت بطرسبورغ بعد أسابيع قليلة، واستمرت حتي العام 1914 حين أغلقتها السلطات القيصرية؛ وأخيراً، عادت إلي الصدور بعد ثورة 1917 مباشرة، واستمرّت حتي العام 1991.تاريخ حافل لا ريب، ولعلّ الصحيفة عرفت من المصائر المتقلبة قدراً يكاد يفوق ما عرفه الحزب الشيوعي السوفييتي نفسه. وحين كانت أرقام توزيعها تتجاوز 11 مليون نسخة يومياً، كانت مصداقية الصحــــيفة تهبط إلي الحضيض في يقين الرأي العام، وكانت تحكمها علاقة تناسب معاكسة: كلما طبعت الصحيفة المزيد من النسخ، ازدادت الهوة بينها وبين الشارع. والمرء يتذكر أن الإعلام الرسمي السوفييتي كان يتوزع علي صحيفتين أساسيتين: البرافدا (أي: الحقيقة) و الإزفستيا (أي: الخبر).وكانت النكتة الشعبية، الذكية والصائبة تماماً، تقول: في الـ برافدا لا يوجد إزفستيا ، وفي الـ إزفستيا لا توجد برافدا . والترجمة: جريدة الحقيقة لا تنطوي علي الخبر، وجريدة الخبر ليس فيها حقيقة!وبعد عام 1991، حين بلغت بيريسترويكا ميخائيل غورباتشوف مآلاتها المنطقية الأخيرة، جري تشييع البرافدا إلي مقبرة التاريخ خمس مرات، كان بينها المرسوم الذي أصدره الرئيس الروسي السابق بوريس يلتسين وقضي بحظر الحزب الشيوعي ومصادرة أملاكه، وفي عدادها الـ برافدا بالطبع، لكنّ العاملين فيها أعادوا إصدارها بامتياز جديد يحمل الاسم ذاته. معركة أخري شرسة احتدمت بين العاملين والمستثمرَيْن اليونانيين خريستوس وشقيقه ثيودوروس يانيكوس اللذين اشتريا حقوقها في عام 1992. وأمّا أحدث المعارك فقد وقعت بين الطبعة الورقية وطبعة أخري إلكترونية تحمل الاسم ذاته، انطلقت علي الإنترنت سنة 1999 باللغات الروسية والإنكليزية والإيطالية والبرتغالية، وكانت بذلك أوّل مطبوعة روسية تعتمد مباشرة علي الشبكة، وصارت الأكثر شعبية لدي الجمهور العريض.الثابت الوحيد اليوم، في غمرة هذا التاريخ الصاخب المتبدّل، هو أن ضجيج الحرب الباردة وعجيجها اختفي تماماً، أو كاد، علي الورق كما علي الشبكة. ولأن التاريخ لا يعود إلي وراء، إلا لكي يكرر مهزلة كما كان كارل ماركس يقول، فإن من غير المرجح أن تعود أية برافدا معاصرة إلي احتضان حرب باردة من أيّ نوع، خصوصاً وأن ما يُستأنف من ذلك التراث تشهده مطاعم الـ سوشي وليس المنابر والصحف والإذاعات
.

ليست هناك تعليقات: